ثم قال شيخ الإسلام : "قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق، بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب".
فقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان بنو إسحاق هم أصحاب الكتاب؛ لأن معهم الكتاب وفيهم النبوة، أما العرب بنو إسماعيل، فإنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكادون يذكرون، بل فشت فيهم عبادة الأصنام، فأي تعظيم لهم وهم في هذه الحالة؟ وشيخ الإسلام يريد أن يصل إلى أن كل الذي ورد في الثناء والمدح والأفضلية إنما ينصب إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام : "وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا منها لما بعث موسى، وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض، لم يكن لأحد عليهم يد، ثم مع يوشع بعده، إلى زمن داود وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله، وسلط عليهم بعد ذلك بختنصر ".
المقصود: أن بني إسحاق كان لهم العلو، فلما أحضرهم يوسف وجاءوا إليه من البدو، كان المستعلي هو يوسف عليه السلام، وظل بنو إسرائيل في مصر، حتى خرجوا منها في عهد موسى، ثم بعد وفاته ومجيء يوشع وهزيمة العمالقة كانوا أيضاً هم الأعلين، ثم جاء داود ثم سليمان وهم كذلك، فالشاهد من هذا: أن الاستعلاء كان في بني إسحاق، وأما بنو إسماعيل فلم يكن لهم استعلاء في كل هذه المراحل، وما استعلوا إلا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال شيخ الإسلام : "فلم يكن لبني إسماعيل عليهم أمر، ثم بعث المسيح، وخرب بيت المقدس الخراب الثاني".
بعد أن رفع الله المسيح عليه السلام إليه، خرّب بيت المقدس الخراب الثاني؛ لأنه خرب أول مرة على يد بختنصر، وأما المرة الثانية فهو على يد تيطس القائد الروماني سنة (70) ميلادية.
ثم قال شيخ الإسلام : "حيث أفسدوا في الأرض مرتين، ومن حينئذٍ زال ملكهم، وقطَّعهم الله في الأرض أمماً".
وذلك كما قال تعالى: ((وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا))[الأعراف:168]، لكن وجودهم الآن هل هو الوجود الثاني أم أن هذا لاعتبار آخر؟ بمعنى أنهم لا يمثلون بني إسحاق، فالله أعلم، وهذا من علم الغيب، وما كان لـشيخ الإسلام ولا لغيره أن يعلم الغيب. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين سيقاتلون اليهود في آخر الزمان، وقد يكون المقصود بذلك هؤلاء المجتمعين في فلسطين، وقد يكون ذلك في زمن آخر، وتنتهي دولتهم هذه بطريقة أخرى.. فهذا كله من أخبار الغيب.
ثم قال شيخ الإسلام : "وكانوا تحت حكم الروم والفرس والقبط، ولم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم، فلم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم، لا أهل الكتاب ولا الأميين، فلم يكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل حيث قالا: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[البقرة:129]، فلما بُعث صارت يد ولد إسماعيل فوق الجميع، فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين، فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة: (وتكون يده فوق الجميع، ويد الكل به)، وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر".